لا يزال اكتشاف المعارف الجديدة و نشرها وتفعيلها في المجتمع الإنساني في طليعة ما يدفع بعجلة التنمية نحو الأمام، و يظل التفكير المنهجي، الناقد والمبدع مفتاح نجاح هذه الأنشطة. و من الواضح اليوم أن مؤسسات التعليم العالي قد اكتسبت وكادت أن تنفرد تماما بذلك الدور الحيوي الذي يكمن في تكوين ورعاية مثل هذا النوع من التفكير. أما في بلد كالجزائر، حيث تُقوَّض استقلالية مؤسسات التعليم العالي عبر سياسات مركزية، لا بد أن تقع مسؤولية الرعاية تلك على عاتق سياسات الحكومة في إدارة و تسيير التعليم العالي. فما هي إذن وضعية هذه السياسات في بلدنا الجزائر؟
إصلاحات الأل أم دي
اتسم قطاع التعليم العالي في الجزائر بإصلاحات عديدة إعتمد أغلبها على سياسات التضخيم كاستراتيجية أساسية للتنمية بما في ذلك آخر الإصلاحات، أي تطبيق نظام الأل أم دي والذي دخل حيز التنفيذ منذ 2004-2005 . يرجع التركيز على استراتيجية التضخيم ، من جهة ، إلى الواقع الديموغرافي للبلاد وخصوصا علو نسبة الشباب فيها، كما يعود ذلك من جهة أخرى إلى خيارات سياسية حكومية معينة . فعلى سبيل المثال، صرحت المديرية العامة للبحث العلمي والتطور التكنولوجي سنة 2008 بو جود حوالي 600 باحث لكل مليون نسمة، و هو ما لا يرقى إلى المعدل العالمي. والتزمت المديرية آنذاك بتضخيم هذا العدد إلى المستوى اللائق، مشيرة إلى نظام الأل أم دي كأداة مهمة لتحقيق هذا الهدف. كما أشاد - ولا يزال يشيد - العديد من مسؤولي وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بقدرة هذا النظام على تضخيم رأس المال البشري بصفة عامة.
لكن الجزائر لم تنفرد بالتوجه نحو استخدام سياسات التضخيم لزيادة عدد خريجي الجامعات. ففي نفس الزمن (أي ما يقارب 2005) بدأ أعضاء من الإتحاد الإقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (ما يعرف بإيكواس) بإعتماد نظام الأل أم دي كذلك، و قد قامت كل من البرازيل و الهند وأندونيسيا والصين بإتخاذ إجراءات مشابهة. كما أبرزت دراسة أجريت خلال سنة 2013 ، استعرضت السياسات الرسمية لتسيير التعليم العالي عبر20 دولة من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وجود نمط مشترك بين تلك الدول فيما يخص تبني إصلاحات تعتمد على أسس سياسات التضخيم. للأسف، من الصفات المشتركة الأخرى التي حددتها هذه الدراسة، وجود نقص في تعزيز سياسات التضخيم بآليات ضمان جودة التعليم العالي في هذه المنطقة بالذات. و بعبارة أخرى، فإن أحد القواسم المشتركة بين سياسات تضخيم التعليم العالي التي عرفتها بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كما طبقت على أرض الواقع يتمثل في محاباة الكمية على حساب النوعية.
لعل هذه الملاحظة لا تأتي بالجديد لطلبة وأساتذة الجامعات الجزائرية الذين يعايشون هذا الواقع يوميا. ففعلا، يواجه المرء تناقضات صارخة عند محاولة رصد أثر سياسات التعليم العالي في الجزائر. فالمصادر الرسمية غالبا ما تتبجح بانجازات كبيرة خصوصا في ما يتعلق بانجاز البنى التحتية و زيادة أعداد الطلبة وخريجي الجامعات بينما تتزايد نسب التذمر والتوتر داخل الجامعات.
إن الأسباب التي أدت إلى هذا الشعور بتدهور الجودة في قطاع التعليم العالي لم تعد قابلة للجدل . و كما صرح مؤخرا وزير التعليم العالي والبحث العلمي، فإن إعتماد نظام الأل أم دي لم يسبقه تقييم مفصل لحالة الجامعات في الجزائر، و لم يأخُذ بعين الإعتبار واقع السياقات المحلية والوطنية، و لم يُدرَج في إطار مشاورات تضم الشرائح المعنية بتلك الإصلاحات من طلبة وأساتذة وإداريين. تسليما بكل ذلك و تداركا له، أطلق وزير التعليم العالي مباشرة بعد توليه منصبه الجديد سلسلة من المشاوارات لتقييم النظام الجامعي ومن ثم الشروع في إصلاح نظام الأل أم دي.
وبالرغم مما في هذه الخطوة من حسن تدبير نسبي مقارنة بما فات، لنا أن نتساءل وبجدية حول طبيعة أي إصلاحات محتملة بعد ما يقارب عشر سنوات من تطبيق هذا النظام، و أن نأخذ بعين الإعتبار تداعيات هذا النظام على التنمية الفكرية والإجتماعية والإقتصادية لمجتمعنا. ومن أخطر هذه التداعيات التي أود التطرق إليها في هذا المقام: 1) الاستقطاب الذي أصاب المجتمع الطلابي من جراء تطبيق نظام الأل أم دي، 2) أثر هذا النظام، الحاصل والمحتمل، على صياغة تجربة التعليم العالي وخاصة في ما يتعلق بعلاقة الطالب الجامعي بالمؤسسات الجامعية والمجتمع عامة.
الإستقطاب الطلابي
لم تكن هناك آليات واضحة لضمان انتقال سلس من النظام الكلاسيكي إلى نظام الأل أم دي ، ولا تدابير مناسبة لتعايش النظامين خلال فترة انتقالية محددة الملامح. على أرض الواقع ، تجسد هذا النقص في التوتر المتزايد بين كل من طلبة النظامين و بين إدارات الجامعات بخصوص ما يرونه تقويضا لقيمة شهاداتهم الجامعية وتبعيات ذلك على مستقبلهم المهني والأكاديمي.
لا يزال طلبة و خريجي نظام الأل أم دي يطالبون بالمساواة التامة مع النظام الكلاسيكي لا سيما فيا ما يخص ترتيب الوظيف العمومي والفرص المتاحة لهم لمواصلة الدراسات العليا . في نفس الوقت ، يلتزم طلبة وخريجي النظام الكلاسيكي بمقولة عدم تكافؤ مستوى التكوين بين النظامين من حيث المدة و النوعية مما يلغي في نظرهم أي محاولة لتبرير المساواة و معادلة الشهادات . ولعل ما ميز الرد الرسمي على هذه التوترات والمطالب المتضاربة هو خيار التخلص التدريجي من النظام الكلاسيكي و الاستجابة لظغوطات الطلبة والأساتذة إلى حين ذلك عبر مجموعة من الإجراءات الوسيطة تمثلت أساسا في إدخال تصنيفات جديدة في الوظيف العمومي، و فرض نسب محدودة على أعداد الطلبة الذين يمكنهم المواصلة في الدراسات العليا ، على كلا الطرفين، وإضافة مجموعة جديدة من الرتب الأكاديمية؛ إجراءات ترقيعية كونت في مجملها متاهة بيروقراطية حقيقية!
وما زاد الطين بلة أنه كثيرا ما ضاع من تحصل على شهادات جامعية من جامعات أجنبية و أراد الالتحاق بصفوف زملائه داخل الجزائر، ضاع في خضم هذا التضارب و المتاهات البيروقراطية الناتجة عنه ، مما أدى في نهاية المطاف إلى خسارات كبيرة في إستثمار المواهب و الثروة الفكرية للجزائر. النتيجة هي مجتمع أكاديمي و طلابي مجزء و قطاع تعليم عالي يولد الصراع والعداء والشعور بالتهميش، بدلا من زرع حس الإنتماء والتضامن وروح الواجب.
غرضي من بسط هذه المشكلات المعروفة هو تسليط الضوء على المفارقة التي تكمن وراء هذا التباين و التضارب. فالحالة البائسة التي انتهى إليها قطاع التعليم العالي في الجزائر قد نتجت عن نقض أحد الركائز الأساسية لنظام الأل أم دي كما صيغ في سياقه الأصلي، وهو ضمان سلاسة تنقل الطلبة بين أنظمة التعليم العالي المختلفة بناء على توحيد إجراءات منح الشهادات. في سياقه الأصلي، هذا الحراك الذي يعِد نظام الأل أم دي بتوفيره يتمثل في تسهيل عملية تنقل خريجي الجامعات بين الدول الأوروبية التي صاغت هذا النظام على قياسها. من هذا المنطلق يصعب أن نتخيل أن الغرض من تطبيق نظام الأل أم دي في الجزائر هو تسهيل - أو بالأحرى مفاقمة - تنقل خريجي جامعات الجزائر إلى أوربا - أو ما نعرفه بهجرة الأدمغة؟! ولكن ليس من الصعب معاينة قطاع التعليم العالي الجزائري وهو يتخبطب تحت تجاذب أمواجب تناقضاته الداخلية ، باعتبار أن ذلك نتيجة منطقية بل وحتمية عند القيام بالتقاط نظام معين من السياق الذي صيغ فيه ثم تطبيقه - بتلق سلبي - في سياق مغاير تماما.
جذور وسياق نظام الأل أم دي
عادة ما يتحدث الملاحظون والمعلقون على نظام الأل أم دي باعتباره جزء من التطورات التي تلت التوقيع على إعلان بولونيا من طرف وزراء التعليم العالي الأوروبيين سنة 1999 . لكن ما يغفل الأغلبية عن ذكره هو أن إعلان بولونيا نفسه نابع من مبادرات أوروبية سبقته و مهدت إليه في سياق إنشاء مساحة منسقة للتعليم العالي في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي ، أذكر منها ما يعرف بماچنا كارتا يونيفارسيتاتوم، إتفاقية لشبونة وإعلان السوربون .
وثَّقت إتفاقية لشبونة سنة 1997 الأُسس التي يتم من خلالها قبول الشهادات الجامعية بين أعضاء الإتحاد الأوربي، في حين شَهِد إعلان السوربون سنة 1998 موافقة كل من المملكة المتحدة ، إيطاليا، ألمانيا وفرنسا على إنشاء منطقة موحدة للتعليم العالي في أوروبا لاستخدامها “كوسيلة لتشجيع تنقل المواطنين و زيادة نسب التوظيف والتنمية الشاملة للقارة” حيث أشار وزرا ءالتعليم الأوروبيون آنذاك أن “الإقتصاد الأوروبي بحاجة إلى تحديث شامل حتى يتمكن من منافسة الولايات المتحدة الأمريكية و غيرها من قوى العالم".
لنضع جانبا العواقب الناجمة عن فرض نموذج أنجلوسكسوني على دول متفاوة التجانس ، و نقول إنه عند وضع نظام الأل أم دي في سياقه الأوسع هذا، يتضح لنا جيدا أن لعملية بولونيا مكانة محددة ضمن رؤية واضحة و واسعة النطاق لتوحيد أوروبا، رؤية تضع التعليم العالي في مركز ما يسمى "إقتصاد المعرفة" للتصدي لتحديات خارجية تراها دول أوربا مشتركة بينها. كما يمكن الرجوع بهذه الرؤية إلى الوراء قليلا لنراها في سياق أكبر من ذلك، و هو تفَطُّن دول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية و إدراكها أن تكاملها على مختلف المستوايات سيلعب دورا حاسما في تحديد مصير القارة و قدرتها على فرض نفسها ضمن أقطاب الهيمنة العالمية التي بدأت في البزوغ غداة الحرب. من خلال هذا التكامل ، كانت أوروبا تهدف إلى تجاوز حدود الدولة القومية عن طريق صياغة رؤية تساعد على خلق هوية أوروبية مشتركة والحفاظ على مكانتها في العالم.
وهذا بالظبط هو ما نفقده عندما ننقل مجموعة من السياسات من سياقها وننسخها بتلقٍ سلبي و كأنها مجرد مجموعة من الإجراءات بينما تمت صياغتها في الحقيقة لترسيخ مكانة شعوب بعينها و أهميتها التاريخية في العالم. في أحسن الأحوال إذن، تطبيق نظام الأل أم دي في الجزائر - ما دام يستبطن رؤية أوروبية لدور التعليم العالي في التنمية - سيكرِّس التبعية للهيمنة الأوروبية . أما في أسوأ الأحوال ، و نحن فيها، فهو يحول دون صياغة رؤية محلية بديلة من أجل التحرر الفكري و الثقافي لمجتمعات ما بعد الاستعمار. أقول ما بعد الاستعمار لأن علينا ألا نتاجهل أطروحات الهيمنة و الإمبريالية و الإستعمار في تحليلنا لهذه الأمور باعتبار أن سياقنا التاريخي الموازي للتطورات التي أدت إلى صياغة نموذج سياسة التعليم العالي الأوروبي هو الإستعمار والإمبريالية، وأن نطاق تطبيق هذا النظام قد شمل أغلب أنحاء المستعمرات الأوربية السابقة في إفريقيا والشرق الأوسط. فإذا كان الإستعمار يأخذ شكل زرع أجياب إستطانية في الأراضي البعيدة لإستنزاف خيراتها، فالإمبريالية - كما يقول إدوارد سعيد - هي مواصلة الهيمنة على سيادة تلك الأراضي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إما عن طريق القوة أو عن طريق التعاون السياسي والتبعية الثقافية والإجتماعية والإقتصادية.
ما نستنتجه إذن هو أن صناع القرار في الجزائر، في تقليدهم تقليد المتلقي للسياسات الأوروبية لإدارة التعليم العالي، قد ركزوا على الشكل وتجاهلوا المضمون بعقول أداتية تكرِّس التفكير الأداتي المهووس بالإجراءات بدون الوعي النقدي لأهدافها العضوية، معززين بذلك مسارنا الدائم على خطى التبعية . فقد فشلوا بهذا التوجه على أكثر من صعيد: 1) في إختيار مسار التقليد بدل الإبداع والإبتكار، 2) في تقليدهم للشكل بدل المضمون، 3) في تطبيق ما قلدوه بغير كفاءة ، 4) في تثبيط القوى الفكرية المحلية القادرة على صياغة بديل أو بدائل و5) في إستدامة التبعية الفكرية والثقافية والإقتصادية لرؤية تكرِّس الهيمنة والتنمية الأوروبيتين.
الخلفية الإديولوجية والصياغة المادية للتعليم العالي
ولكن القصور الذي شهده تطبيق إصلاح الأل أم دي في الجزائر يمتد إلى بُعد أشد إثارة للقلق. إن سياسات تضخيم التعليم العالي، كما طبقت عبر مختلف أنحاء العالم، تستوجب تكاليف مرتفعة لضمان جودتها . سيمكننا النظر في طرق تمويل هذه السياسات من معاينة خلفية أيديولوجية غالبا ما يغفل عن ذكرها أو يتجاهلها من يخوض في قضية إصلاحات الأل أم دي في الجزائر. فلننظر إذن إلى التجربة الأوروبية التي جعلناها نموذجا يحتذى به.
بداية، تجدر الإشارة إلى أن صياغة مخططات إنشاء مساحة مشتركة للتعليم العالي في أوروبا تمت بدون إشراك المنظمات الطلابية للبلدان المعنية. كما أدى الشروع في تنفيذ هذه المخططات إلى ظهور مجموعة من التحولات الجذرية في نمط إدارة مؤسسات التعليم العالي في أنحاء أوروبا حيث بدأت هذه الأخيرة في تطبيق مبادىء تجارية لتسيير أنشطتها الرئيسية من تعليم و بحث. من ناحية أخرى، شهد عدد من الدول الأوروبية زيادات تدريجية في تكاليف الدارسة التي يدفعها الطلبة وفي الإعتماد على القطاع الخاص لتمويل النشاطات الرئيسية للجامعات. صاحب هذه التحولات احتجاجات طلابية شديدة، ففي عام 2000، على سبيل المثال، صرحت الحملة من أجل التعليم المجاني أن "تمويل الجامعات من طرف القطاع الخاص سيزيد من سيطرة هذا القطاع المباشرة وغير المباشرة على نظام التعليم... وأنه ليس من العدل حصر خيارات التعليم في جملة المناهج الممولة من طرف هذا القطاع". كما نظم طلاب جامعة برشلونة إحتجاجات سنة 2009 استنكروا فيها عدم وجود شفافية في كيفية صياغة المناهج والمقررات التعليمية، و عرفت المملكة المتحدة مظاهرات عارمة بعد أن قررت الحكومة رفع تكاليف الدارسة سنة 2010.
لا يخفى على أحد أن السياسات المدرجة في عملية بولونيا تستبطن رؤى إيديولوجية متجذرة في مبادىء السوق الحرة و النظام الرأس مالي. وعلى الرغم من عدم وضوح الصورة تماما في الجزائر - فقد ألح وزير التعليم العالي الحالي، مثلا، على مواصلة تمويل الجامعات من الخزينة العامة - إلا أن هناك مؤشرات موازية توحي بالتوجه التدريجي نحو دفع الجامعات للاعتماد على القطاع الخاص لتمويل بعض نشاطاتاها و إدراج جاماعات خاصة في قطاع التعليم العالي بصفة دائمة ( يوجد أربعة مقترحات قيد الدراسة من طرف الوزارة المعنية في وقت كتابة هذه السطور). نحن إذن نخطو خطوات حييّة على درب الخوصصة، و باستبطانه للإيديولوجية النيوليبرالية ، يُعتبر نظام الأل أم دي في الحقيقة النظام الأمثل لإعادة هيكلة قطاع التعليم العالي بحيث يتوافق مع أسس إقتصاد السوق ، والوسيلة المثلى لتهيئة البيئة الملائمة لإستيراد خدمات التعليم العالي و بالتالي تعزيز خوصصة هذا القطاع.
شئنا أم أبينا إذن، نموذج الأل أم دي سيكرس سيطرة الدوافع الإقتصادية على قطاع التعليم العالي التي ستهيمن على مناهج ومقررات التدريس لتصبح الداراسات العلي سلعة أخرى من بين السلع خاضعة لقوانين العرض والطلب والتنافس بين من يوفرها. الإشكالية هنا تكمن في إعادة صياغة طبيعة الدراسات العليا ، فعندما تصبح هذه الأخيرة سلعة من بين السلع، يتحول التركيز من الفائدة الإجتماعية إلى الفائدة الفردية فيزداد رواج النزعة الفردية وضمور النزعة الإجتماعية للتجربة الجامعية ، كما تتسلل قيم نيوليبيرالية إلى طبيعة تسيير القطاع فيزيد الهوس بالمؤشرات الكمية كعدد خريجي الجامعات الذي ينتجه القطاع بدل نوعية التكوين وما يعود به على التنمية الفكرية و الثقافية للمجتمع. و من ثم سيتحول التعليم العالي إلى وسيلة لا لتنمية الأفراد بعزلة عن المجتمع فحسب بل كذلك لتعزيز هيمنة القوى الإقتصادية التي تسيطر على أشكال المناهج الدراسية وتحدد مضامينها خاريجة كانت أم داخلية.
كما سيحول هذا النموذج طبيعة العلاقة بين الطالب وأساتذته و مؤسسات التعليم العالي إلى علاقة تعاقدية ذات منظور تجاري بحت، تسودها قيم إنتاج واستهلاك السلع و الأشياء فتحل القيم التبادلية محل القيم الأصيلة لطلب العلم و البحث عن المعرفة ذات القيمة الإجتماعية. فيعاد إذن صياغة مفهوم ”إقتصاد المعرفة“ الذي لن يعبر عن إستخدام المعرفة لتنمية المجتمع بل لتكريس مجال المعرفة لأجل الربح الخاص. القضية محورية إذن و حرجة للغاية والحاجة إلى رؤى بديلة للتعليم العالي نابعة من قيم متجاوزة للقيم المادية، ملحة جدا لتخطي مركزية سياسات الدولة والوصول إلى بلورة قيم تحررية حقة تعين مجتمعنا على الخروج من دائرة الهيمنة الفكرية والإقتصادية التي تغمره.
ملاحظات ختامية
هناك أزمة عالمية تجتاح مؤسسات التعليم العالي منذ مدة أدت إلى هيكلة هذه المؤسسات على شاكلة شركات خاصة غارقة في المنافسة المستمرة لإغواء أكبر عدد من الطلبة والاستحاوذ على مصادر التمويل. هذه الأزمة تقوم بإعادة صياغة طبيعة التعليم العالي و البحث العلمي بطريقة جذرية، وعملية بولونيا و الإصلاحات التي تلتها لا تقوم سوى بتكريس نموذج إدارة الجامعة كشركة تجارية.
في عز هذه الأزمة، لا يزال صناع القرار في الجزائر يدفعون فكرة أن نظام الأل أم دي سينعش قطاع التعليم العالي، أنه نتيجة حتمية للعولمة ليس لدينا خيار سوى تبنيه و التكيف معه، في حين أن مواصلة تطبيق نظام الأل أم دي سيواصل في ربط مصير التعليم العالي في الجزائر بالتبعية للتنمية الأوروبية، و بالتالي المساهمة في تعزيز الهجوم النيوليبيرالي على قطاع التعليم العالي والمجتمع ككل. بدون نقاش نقدي حقيقي لخبايا هذا النظام و علاقته بأزمة التعليم العالي في العالم عامة و الجزائر خاصة ، لن يمكننا بناء رؤى بديلة للجامعة الجزائرية قادرة فعلا على خدمة المجتمع ما دامت الحكومة تدفع بأجندة إصلاح الإصلاحات.
بعد ما يقارب عشر سنوات من التطبيق الميداني ، يجب على أي تقييم لنظام الأل أم دي أن ينطلق من تحليل واسع النطاق لنتمكن من الوصول إلى حلول جذرية وحاسمة للتعليم العالي في الجزائر يجعل منه وسيلة لخدمة مجتمعنا بدلا من إخضاعه لقوى خارجية. وتمثل الدراسات الأكاديمية التاريخية، كالدراسة المعمقة التي قام بها جورج مقدسي حول نشأة معاهد التعليم وتطور العلوم الإنسانية في الحضارة الإسلامية ومدى تأثيرها - وتباينها - عن شاكلة أنظمة الجامعات ومناهج التدريس كما نعرفها اليوم، تمثل بعض جوانب التاريخ التي من الواجب الرجوع إليها عند البحث عن حلول جذرية لبلورة رؤى بديلة قادرة على مواجهة تحديات العولمة و النماذج المادية التي تفرضها على التنظيم الاجتماعي . فحتمية التقليد إذن تكمن في ذهن و عين المقلد ثم في خاياراته السياسية أكثر من وجودها في احتمالات و إمكانية الإبداع الناقد والبديل، و ما يمنع ذلك إلا الافتقار إلى الجرأة وعدم التسلح بفهم مكانة ووجهة الأمم والشعوب. ويحضرني في هذا الصدد تعريف عبد الوهاب المسيري للنموذج الكامن وراء إيديولوجية العولمة الذي يصفه بنموذج التطور الأحادي الخط، أين يقول:
"[هو] الإيمان بأن ثمة قانونا علميا وطبيعيا ماديا واحدا للتطور تخضع له كل المجتمعات والظواهر، وأن التقدم هو في الواقع عملية متصاعدة من الترشيد المادي، أي إعادة صياغة الواقع الإنساني في إطار الطبيعة\\المادة ... بحيث يتحول الواقع إلى مادة إستعمالية بسيطة ويتحول الإنسان إلى كائن وظيفي أحادي البعد. ومن هنا نرى أن العولمة تفضل السهل على الجميل والأخلاقي ، تفضل التكيف على لمقاومة و التجاوز، بدلا من الحديث عن إقامة العدل في الأرض يفضل الحديث عن قبول الأمر الواقع."
في حين أن هناك قضايا عاجلة - مثل مسألة الاستقطاب الطلابي - التي تتطلب تدابير علاجية فورية ، هناك قضايا أعمق يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار عند التأمل في خلفيات أنظمة التعليم العالي و الإيديولوجيات التي تستبطنها والتي تعد في نظري جوهر مشكلاتنا الحضارية التي تبدأ حلولها بحل مشكلات البدائل . إننا في أشد الحاجة، و بالتالي في وضع ممتاز، لابتكار أفكار تؤدي إلى بناء رؤى بديلة فعلا متجذرة في أصالة تحررنا الفكري و الإجتماعي، ثم السياسي لبلداننا . حان الوقت لكي تكون لنا الجرأة على القيام ذلك.
المراجع:
[1] ADEA/REESAO, 2008, Guide de formation du LMD l’usage des institutions d`enseignement suprieur d’Afrique francophone
[2] El-Hassan K. (2013), Quality assurance in higher education in 20 MENA economies, Higher Education Management and Policy, 24(2), pp. 73-84.
[3] The Bologna Declaration of 19 June 1999. Joint declaration of the European Ministers of Education. European Union, Brussels, available at: http://www.bologna-berlin2003. de/pdf/bologna_declaration.pdf.
[4] Hummel F. (2009), The neoliberal language of higher education in the EU: An analysis of the Bologna Process. In Journal of the Worlds Universities Forum, 2(5), pp. 53-64.
[5] The Convention on the Recognition of Qualifications concerning Higher Educa- tion in the European Region), 1997, available at http://www.coe.int/t/dg4/ highereducation/recognition/lrc_EN.asp.
[6] Joint declaration on harmonization of the architecture of the European higher education system, Paris, the Sorbonne. 1998
[7] Said, E. W. (1993) Culture and imperialism. Vintage
[8] Oosterlynck, S. (2001) ’The Bologna Declaration: towards the construction of an Eu- ropean Higher Education Market?’, Education and Social Justice 3(2): 24
[9] Levidow, L. (2002). Marketizing higher education: neoliberal strategies and counter- strategies. In: Robins, Kevin and Webster, Frank eds. The Virtual University? Knowledge, Markets and Management. Oxford, UK: Oxford University Press, pp. 227-248.
[10] Lorenz, C. (2006). Will the universities survive the European Integration? Higher education policies in the EU and in the Netherlands before and after the Bologna Declaration. Sociologia Internationalis, 44(1), 123.
[11] Carroll, W., & Beaton, J. (2000). Globalization, Neo-liberalism and the Changing Face of Corporate Hegemony in Higher Education. Studies in Political Economy, 62.
[12] Makdisi, G. (1981). The Rise of Colleges. Institutions of Learning in Islam and the West. Columbia University Press, 562 West 113th Street, New York, NY 10025.
[13] Makdisi, G. (1990). The Rise of Humanism in Classical Islam and the Christian West. Edinburgh University Press, 1990).
[14] عبد الوهاب المسيري ، العلمانية و الحداثة و العولمة ،تحرير سوزان حرفي ،دار الفكر 2009